تكتسب الزيارة الأخيرة التي قام بها السيد عباس عراقجي، مساعد وزير الخارجية والعضو البارز في الفريق الإيراني المفاوض، إلى عاصمتين إقليميتين مهمتين، هما القاهرة وبيروت، أهمية بالغة. هذه الجولة، التي سبقت مباشرة الجولة السادسة من المفاوضات مع الولايات المتحدة، كانت تهدف إلى تحقيق أهداف محددة في إطار السياسة الخارجية الإيرانية.
خلال زيارته للقاهرة يوم الاثنين، التقى عراقجي بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير خارجيته. وفي هذه المباحثات السياسية، بالإضافة إلى استعراض العلاقات الثنائية، تم تداول وجهات النظر حول قضايا مهمة مثل الوضع في غزة، وسوريا، ولبنان، وأمن البحر الأحمر، وآخر مستجدات المفاوضات النووية الإيرانية. كان الهدف الرئيسي من هذه المشاورات هو حشد الدعم وتنسيق المواقف مع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين لتعزيز الموقف الإيراني على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة.
على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية كاملة مع إيران، تلعب مصر تقليدياً دوراً مهماً في الوساطة وتسهيل الاتصالات الإقليمية. وفي هذا السياق، يعزز هذا اللقاء التكهنات حول احتمال إشراك القاهرة في المساومات بين إيران والولايات المتحدة؛ خاصة وأن مصر حليف وثيق للولايات المتحدة في المنطقة.
نقطة أخرى جديرة بالاهتمام هي أنه على الرغم من تأكيد الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدائم على ضرورة عدم ربط المفاوضات النووية بالقضايا الإقليمية، إلا أن سياسة إيران الإقليمية الجديدة تقوم على الدفع بالاتفاق النووي بالتوازي مع إبرام تفاهمات سياسية مع اللاعبين الإقليميين المهمين، بما في ذلك السعودية وتركيا ومصر، التي لديها مخاوف بشأن التداعيات الأمنية للبرنامج النووي الإيراني. وفي هذا الصدد، يبدو أن زيارة القاهرة، بعد لقاءات وزير الخارجية في الرياض وأنقرة، قد تكون محاولة لإدارة هذه المخاوف، أو على الأقل إرسال رسالة مفادها أن إيران لا تتجاهل الأبعاد الإقليمية للمفاوضات وتسعى، بالتزامن مع حل قضيتها النووية، إلى صياغة معادلة تعاونية لا تكون فيها المحصلة صفرية في المنطقة.
على هامش لقاءاته خلال زيارته الرسمية لمصر، التقى وزير الخارجية أيضاً بالمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي. (ترتيب اللقاء مع غروسي لم يكن من جانب إيران، بل جاء بطلب من غروسي وبمبادرة مصرية). إن لقاء عراقجي مع رافائيل غروسي في القاهرة يحمل أهمية بحد ذاته. فاختيار القاهرة لاستضافة هذا اللقاء، بدلاً من فيينا أو طهران، يشير إلى عدة نقاط رئيسية؛ في المقام الأول، يبدو أن إيران، من خلال هذه الخطوة، تسعى على الأرجح إلى إرسال إشارة حول استعدادها للتعامل وتخفيف التوترات مع الوكالة، في أجواء أقل رسمية وبعيداً عن الضغوط المباشرة للمفاوضات النووية.
إن التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية والتعبير عن القلق إزاء تسريع إيران لعمليات تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، في خضم المفاوضات مع الولايات المتحدة، يمثل إشارة سياسية ذات مغزى. توقيت نشر هذا التقرير يعزز التحليل القائل بأن المدير العام للوكالة والترويكا الأوروبية قد أبدوا استياءهم من عدم وجودهم في صلب المحادثات النووية.
ورداً على هذه الأجواء، كان لقاء وزير الخارجية الإيراني مع رافائيل غروسي في مصر خطوة دبلوماسية متعددة الأهداف. فمن ناحية، كان اللقاء محاولة للتأكيد مجدداً على المكانة المحورية والدور الرقابي للوكالة، ومن ناحية أخرى، كان حركة ذكية لتمهيد الطريق لتفاهمات مستقبلية وإزالة اللبس القائم.
من جهة أخرى، تأتي زيارة عراقجي إلى لبنان في وقت تشهد فيه علاقات البلدين تغييرات جوهرية في ظل التطورات التي أعقبت الحرب بين لبنان والنظام الإسرائيلي، واستشهاد السيد حسن نصر الله، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية ورئيس للوزراء، مما يضفي عليها أهمية خاصة.
في المرحلة الراهنة، يشكل اعتماد بيروت على الولايات المتحدة لكبح هجمات جيش النظام الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية، بالتزامن مع ضغوط الأطراف الأوروبية التي تشترط مشاركتها في إعادة إعمار لبنان بنزع سلاح حزب الله وتقليص الوجود الإيراني في البلاد بشكل كبير، عقبة كبرى أمام توسيع علاقات لبنان مع إيران. ونتيجة لذلك، تبدي السلطات اللبنانية الجديدة، بحجة حاجة بلادها إلى الاستقرار وإعادة الإعمار، رغبة في الإبقاء على العلاقات عند مستوى مُدار مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. في مثل هذه الظروف، تبدو زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى لبنان محاولة لإفشال هذه الضغوط والحيلولة دون حدوث فتور كامل في العلاقات الإيرانية اللبنانية. بعبارة أخرى، يسعى جهاز السياسة الخارجية الإيراني إلى الحفاظ على علاقة إيجابية مع هذا البلد الصغير والمهم في الشرق الأوسط، من خلال الإبقاء على العلاقات الدبلوماسية والتأكيد على التعاون الاقتصادي وقضية إعادة إعمار لبنان.
من جانب آخر، فإن التطورات الأخيرة في المنطقة، بما في ذلك الأزمات الداخلية في لبنان، والوضع في غزة، والتطورات في سوريا، تستدعي من إيران إجراء مشاورات مستمرة، وتوفر هذه الزيارات فرصة لتنسيق المواقف وبحث ظروف التعاون.
يمكن تحليل الزيارات الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني من أربعة مناظير رئيسية، توضح مجتمعةً الاستراتيجية الجديدة لدبلوماسية البلاد:
- أولاً، ربط الملفات وتحقيق التآزر؛ فبدلاً من التركيز على قضية واحدة، يسعى الجهاز الدبلوماسي إلى إيجاد صلة بين الملف النووي والقضايا الإقليمية لتعزيز مصالح البلاد على الجبهتين بشكل متناسق.
- ثانياً، استعراض القدرة على المناورة؛ فاختيار وجهات دبلوماسية متنوعة يدل على مرونة إيران وسعيها لاستخدام جميع إمكانياتها في ساحة السياسة الخارجية.
- ثالثاً، تمهيد الأرضية للاتفاق؛ فالهدف المهم من هذه التحركات هو بناء الثقة على الصعيد الإقليمي وإزالة العقبات الفنية مع الوكالة، لتمهيد الطريق نحو التوصل إلى اتفاق نووي مُرضٍ.
- رابعاً، إرسال رسائل استراتيجية؛ فهذه الزيارات تتيح لإيران فرصة إرسال رسالة حول جديتها في التفاوض وإصرارها على مصالحها الوطنية إلى الأصدقاء والمنافسين في آن واحد.
باختصار، تُظهر هذه الاستراتيجية متعددة الأبعاد أن إيران، عشية جولة جديدة من المفاوضات، ومن خلال نظرة شاملة للتطورات، تستخدم جميع أدواتها الدبلوماسية لإدارة الأزمات وتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
محمد مهدي مظاهري، أستاذ جامعي
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"