شهدت منطقة جنوب القوقاز في الأشهر الأخيرة اهتمامًا متزايدًا من دول المنطقة والقوى المحيطة، وهو ما تجلّى في لقاءات قادة باكو ويريفان في الإمارات العربية المتحدة، ومباحثات الرئيس التركي مع قادة هذه الدول، وحتى المشاورات مع "جولاني" في باكو، وغيرها.
تزامن ذلك مع ظهور توترات في العلاقات بين باكو وموسكو، وهو ما يستحق الاهتمام. كما أن التصريحات الجديدة حول ممر "زنغزور" المزعوم وطريقة إدارته -حتى من قبل الشركات الغربية والأجنبية- وخصوصًا بعض الأحاديث عن إنشاء الممر في الربيع المقبل، تكتسب أهمية مضاعفة.
تدخل التفاعلات الإقليمية والدولية مرحلة جديدة من التنافس، حيث تتسارع التطورات السياسية والأمنية بشكل يوازي نمو التكنولوجيا. ويواجه المجتمع الدولي أزمات متعددة ومتنوعة، تشمل الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية لمدة 11 يومًا، والإبادة الجماعية في غزة، والحرب في أوكرانيا، وحروب التعريفات الجمركية الأمريكية مع العالم -وخاصة مع الصين وأوروبا- بالإضافة إلى التطورات الهائلة في محور أوراسيا، بما في ذلك جنوب القوقاز وغرب آسيا.
من المؤكد أن هذه المنطقة لها دور بارز في الاستراتيجية الجغرافية لمحور أوراسيا. ووفقًا لـ "كابلان"، فإن نقطة التركيز للسيطرة على التفاعلات الدولية قد انتقلت من منطقة البلقان إلى منطقة جنوب القوقاز وآسيا الوسطى.
لطالما كانت هذه المنطقة جزءًا من الحضارة الإيرانية، كما أنها ملتقى للثقافات والأديان والأعراق المشتركة، وشهدت تطورات متنوعة في فترات تاريخية مختلفة. وهي الآن منطقة عازلة مهمة بين بحرين قيمين هما البحر الأسود وبحر قزوين، ويمكن القول إن لها دورًا بالغ الأهمية في قضايا الممرات ونقل الطاقة، وأساسًا في إرساء السلام والاستقرار والتوازن الإقليمي. منذ بداية الأزمة في أوكرانيا وفرض العقوبات الغربية الكاملة على روسيا، أصبحت العلاقات بين باكو وموسكو أكثر تماسكًا وقوة.
هذه المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية والإمكانات التنموية، والتي تُعد منطقة حضارية وتاريخية لإيران، شهدت تطورات جديدة في عام 1400 هـ.ش. مع العملية العسكرية الأذربيجانية ضد أرمينيا. والهدف النهائي في هذا التنافس بين المحور التركي-الأذري-الأرمني والروسي هو الحصول على حصة أكبر في السيطرة على منطقة أوراسيا، التي لها أهمية جيوسياسية واقتصادية. في الظروف الجديدة التي نشهد فيها بوادر حرب باردة وساخنة جديدة بين روسيا والغرب، تولي دول جنوب القوقاز الثلاث، وخاصة روسيا، اهتمامًا خاصًا للسياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بصفتها مركزًا مهمًا ومؤثرًا في التطورات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى العلاقات الثنائية. في الوقت نفسه، يسعى الروس إلى زيادة دورهم وقدراتهم في المنطقة للتنافس مع أمريكا وتركيا وحتى الصين، ويراقبون عن كثب تحركات الدول المجاورة التي تميل إلى الناتو.
في ظل الظروف الراهنة، تسعى بعض دول المنطقة من خلال الأخبار والتطورات المتعلقة بممر "زنغزور" الوهمي إلى تحقيق أهداف ومصالح خاصة، لن تكون بالتأكيد في صالح الأمن الإقليمي على المدى الطويل. ولذلك، فقد أدركت الحكومة الأرمنية الآثار السلبية لهذه القضية وأعلنت معارضتها. وبالنظر إلى التطورات الميدانية والمواقف الرسمية لقادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي أُعلنت على مستويات مختلفة وحتى على مستوى المرشد الأعلى في عدة مراحل للقادة البارزين لهذه الدول، بما في ذلك روسيا وأرمينيا وأذربيجان وتركيا، يبدو أنه لا يوجد مجال كبير لتنفيذ هذا الممر الوهمي بالشروط التي ترغب فيها باكو. ومن الطبيعي أن أي تغيير في جغرافية المنطقة، أو حدودها، أو أساسًا في استراتيجيتها الجغرافية، أمر غير مقبول على الإطلاق بالنسبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ لأن أحد المبادئ المهمة لسياستها الخارجية كان دائمًا هو الحفاظ على وحدة أراضي الدول وعدم تغيير الحدود والاستراتيجية الجغرافية للمناطق المختلفة، بما في ذلك هذه المنطقة، التي تلعب دورًا مهمًا في السلام والاستقرار الإقليمي.
في الوقت نفسه، تمر دول القوقاز وآسيا الوسطى، طوعًا أو كرهًا، بمرحلة حساسة تُعرّض فيها مصالح هذه الدول للمساومة من قبل القوى الأجنبية، وخاصة بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا والغرب. ومن المؤكد أن التطورات الأخيرة لن تحقق إنجازات ملموسة لشعوب المنطقة، أو على الأقل لن تكون هناك دولة رابحة من الأحداث الأخيرة. ومن جهة أخرى، فإن هذه التطورات تضر بشكل خطير بالنشاط الاقتصادي للدول، وتؤثر على المدى الطويل على معدلات النمو الاقتصادي، وتلبية احتياجات أوروبا من الطاقة والسلع الأساسية؛ بالإضافة إلى أنها تسبب ركودًا جديًا في الأنشطة الأخرى مثل صناعة السياحة. وفي الوقت نفسه، يجب الاعتراف بأن مرحلة جديدة من الحرب الباردة قد بدأت، والتي يمكن أن تؤدي إلى عواقب خطيرة على البشرية، مثل تغيير الحدود وحتى بداية أول حرب عابرة للمنطقة في الألفية الثالثة، مع تغيير خريطة الاستراتيجية الجغرافية العالمية وتحويل أدوار أجزاء أحجية القوة في أوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى.
قامت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في السنوات الأخيرة بتحركات سياسية واقتصادية ملحوظة في المنطقة، وهو ما يؤكد استمرار المواقف المتوازنة للحياد الإيجابي بهدف التشاور مع قادة دول المنطقة وتعزيز التعاون الشامل، وهو ما أكده المسؤولون الإيرانيون لكل من باكو ويريفان. وفي الوقت نفسه، شهدت الأبعاد السياسية والثقافية، وخاصة التبادلات الاقتصادية والتجارية، مع دول جنوب القوقاز الثلاث، بما في ذلك أرمينيا، نموًا ملحوظًا وصل إلى الضعف في السنوات الأخيرة، ولا تزال هناك قدرات أكبر للاستثمار المشترك والإجراءات الاقتصادية والتكنولوجية المشتركة. كما أكد الرئيس المحترم للجمهورية الإسلامية، خلال قمة بريكس في موسكو في أكتوبر 2024، في لقاءاته مع قادة دول مهمة في المنطقة، بمن فيهم رئيس وزراء أرمينيا، على اهتمام بلادنا بالتوسع الكامل في العلاقات مع الجيران، بما في ذلك دول جنوب القوقاز الثلاث.
على أي حال، فإن بلادنا، وفي الوقت الذي تراقب فيه التطورات بدقة وتتخذ مواقف مناسبة وفي الوقت المناسب، تضع في مقدمة أولوياتها نهج تشجيع الأطراف على حل الخلافات الحدودية والإقليمية من خلال الحوار وبناءً على الاتفاقيات واللوائح الدولية؛ لأن تقدم المنطقة وازدهارها الكامل يعتمد على إرساء سلام دائم وثقة متبادلة مع المشاركة الجماعية. وختامًا، على الرغم من أن الوضع في المنطقة يتجه نحو تعقيد خاص في الوقت الحاضر، إلا أن الخبرة التاريخية تقول إن على القادة الأذكياء للدول المجاورة أن يتصرفوا بطريقة لا تجعلهم ورقة مساومة للقوى الكبرى، ومن ناحية أخرى، يجب على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مع تعزيز جميع أبعاد العلاقات، أن تركز بشكل أكبر على الأسس الحضارية والثقافية والنهج التنموي والاقتصادي مع دول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى.
علي بمان إقبالي زارتش، رئيس مجموعة دراسات أوراسيا
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"