يشهد عالم الألفية الثالثة فترة عصيبة وشاقة، لا سيما في محور أوراسيا وغربها، وتعتبر المآسي الإنسانية المفجعة في غزة أبرز رموزها. يأتي هذا في الوقت الذي كان فيه تطور العلوم والتكنولوجيا وإنجازات الذكاء الاصطناعي يبشر بحياة أفضل يسودها الهدوء والتعايش السلمي.
وفي الألفية الثالثة، ترافقت التحولات الدولية والإقليمية المتسارعة بعنف وجرائم مضاعفة. فإذا كنا في القرن العشرين نشهد أزمة خطيرة كل عقد من الزمان، فقد تسارعت هذه الوتيرة في القرن الحادي والعشرين لتصل إلى أزمة كل عام، بل أزمات فصلية وشهرية.
كانت هذه المسيرة تنذر، منذ انهيار الشيوعية وحروب البلقان واحتلال العراق وأفغانستان، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، بقرنٍ لأمراء الحرب. وفي خضم ذلك، يواجه النظام الدولي والساسة العالميون فراغًا ونقصًا في الإنجازات الملموسة في مجال منع الأزمات، وخاصة في حل النزاعات الدموية.
وفي هذا السياق، تمر كبرى المؤسسات الدولية وحقوق الإنسان بعملية ركود في القضايا العالمية الهامة، ففي الموضوعات الدولية الجوهرية، إما تصل إلى طريق مسدود أو تكتفي بمجرد إعلان المواقف وإصدار بضعة بيانات وقرارات تفتقر إلى ضمانات تنفيذية. وفي حين تشهد الساحة الدولية هذه الأيام تحولات متنوعة ومعقدة، من الإبادة الجماعية في فلسطين إلى الانقسامات في المحور الأوروبي الأطلسي، وأزمة أوكرانيا والحرب المفروضة على إيران لمدة 12 يومًا؛ إلا أنه نادرًا ما يُسمع حديث عن دور الأمم المتحدة كأكبر مؤسسة دولية في مجال إرساء السلام والاستقرار. وهو أمر يبدو أنه قد تم قبوله كحقيقة ومعيار من قبل رجال الدولة والرأي العام العالمي. حقًا، لماذا ابتعدت الأمم المتحدة عن رسالتها ومثلها العليا الأهم، وأصبحت منشغلة بقضايا ثانوية مثل رعاية شؤون اللاجئين وإصدار عدد من البيانات؟
والأهم من ذلك، أن الدور الكاريزمي لزعماء العالم السياسيين والأمين العام قد اقتصر أيضًا في أزمات السنوات الأخيرة على إبداء آراء غير مؤثرة. هذا في حين أن منصب الأمين العام هو أرفع وظيفة دولية وأهم موقع إداري في الأمم المتحدة، يتولى تنسيق أنشطة المنظمة إلى جانب تقديم مبادرات بناءة لتعزيز السلم والأمن الدوليين والنمو والتنمية العامة. ومع مرور ما يقرب من ثمانية عقود على إنشاء الأمم المتحدة، يمكن تلخيص التقييم الأكثر شيوعًا لهذه المنظمة في الجمل التالية:
تُعرف الأمم المتحدة بأنها أهم مؤسسة دولية، لكنها في الوقت نفسه الأقل دقة ومهنية، إذ تعمل كأداة للقوى العظمى، خاصة تلك التي تتمتع بحق النقض (الفيتو)، بينما تمثل للدول والشعوب الأخرى مركزًا للجدال اللفظي، لا منصةً لحل المشكلات العالمية. ومع ذلك، تُعدّ الأمم المتحدة ملاذًا للقوى الكبرى في قضايا حفظ السلام، والمشورة الفنية، ومراقبة الانتخابات، ودعم المتضررين من الكوارث الطبيعية، والوساطة السياسية.
وفي غضون ذلك، روّج أمراء الحرب في العالم لنهجهم خلال العقدين الماضيين، وضخ منتجو الأسلحة وتجار هذا القطاع وقودًا قويًا في هذا التوجه، بحيث لم يعد هناك أي معيار أو لائحة لبدء الحرب. فكل دولة تسعى لتحقيق أحلامها بما يتناسب مع قوتها وقدرتها العسكرية.
وإلى جانب الإجماع العالمي على ضرورة تغيير النظام الدولي، تعتقد مختلف الدول أن المحافل الدولية، وخاصة الأمم المتحدة، تحتاج أيضًا إلى تغييرات جوهرية وآليات مُحدّثة لتتمكن من الاستجابة بفعالية وكفاءة للظروف العالمية الجديدة. يرى العديد من المحللين أن حق النقض مذموم، ويعتقدون بضرورة مراجعة أساسية في صيغة ومدى وكيفية استخدامه، لأنه كان سببًا في لجوء الأمريكيين إلى الأحادية واستخدام مبدأ التدخل العسكري لمنع الحرب وانعدام الأمن كأداة. في السنوات الأخيرة، أصبح حق النقض موضع اعتراض العديد من الدول، وتطالب دول مثل اليابان وألمانيا والهند بإصرار بهذا الحق، بينما طالبت الدول الإسلامية أيضًا بحق مماثل في إطار المادة 22 من إعلان قمة طهران.
بعد القضية الفلسطينية، يمكن الإشارة إلى أفغانستان وسوريا والعراق وأوكرانيا كبؤر أزمات أخرى في العالم. وفي الوقت نفسه، كان برنامج إيران النووي السلمي على جدول أعمال الأمم المتحدة في العقدين الماضيين، بجهود مشبوهة من القوى العظمى.
على الرغم من أن القوى العالمية الكبرى -خاصة الولايات المتحدة- تدخلت في البلدان الثلاثة الأولى بنهج أحادي يسمى "الاستباقي"، وتحت ستار مكافحة الإرهاب والأسلحة الخطيرة، فإن الأمم المتحدة لم تتمكن من إظهار تحرك فعال ومؤثر في أداء دورها.
كما يجب الإقرار بأن سجل المنظمة في أحد أهدافها الهامة الأخرى، وهو مكافحة الفقر والجوع، ليس مُشرقًا على الإطلاق، حيث لا يزال ملايين الأفارقة يعيشون في فقر مدقع، وما المجاعة والجوع الذي يعاني منه الناس العزل في غزة وحتى الصومال إلا غيض من فيض. ومن المثير للاهتمام، وباستناد إلى تقارير المنظمة نفسها، أن الحصول على لتر واحد من مياه الشرب النقية يوميًا لا يزال حلمًا لأكثر من نصف سكان العالم، الذين يعيشون على دخل يومي يتراوح بين أقل من دولارين وخمسة دولارات.
في خلاصة شاملة، وبالنظر إلى الاتجاه المتزايد للأزمات الإقليمية والعالمية التي أدت إلى إبادة جماعية وجرائم واسعة النطاق ضد الإنسانية؛ فإن أداء المحافل الدولية، خاصة في أزمة أوكرانيا وكذلك الحرب الأخيرة في غزة واستمرار المذبحة التي يرتكبها النظام الصهيوني بحق آلاف النساء والأطفال الأبرياء، لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال لدى الرأي العام العالمي. ويجب الإقرار بأنه، من ناحية، لم تحصل الهيكلية الواسعة والمعقدة الحالية للمنظمات الدولية على درجة النجاح في فعاليتها، وبسبب عدم تحقيقها نجاحًا يُذكر في الألفية الثالثة؛ فإنها بحاجة ماسة إلى تحول جذري وإصلاح هيكلي بنهج يركز على الميثاق والعدالة. ومن ناحية أخرى، فإن تراجع دور ومكانة الأمم المتحدة وغيرها من الهياكل الإقليمية والدولية مثل منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها، قد أقرت به العديد من الدول والشخصيات السياسية والدولية، وبالنظر إلى نوع أدائها في المعادلات الدبلوماسية وحل الأزمات المؤلمة الحالية، فإنها لا ترى لها قدرة كبيرة في هذا المجال.
علي بمان إقبالي زارتش، رئيس مجموعة دراسات أوراسيا
"إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة"