سياسة الحوارات الإقليمية

قبل الهجوم غير المشروع من قبل إسرائيل والولايات المتحدة على المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، كانت الدبلوماسية الإيرانية تتبع نهجًا فعالًا ومتعدد الأطراف في المنطقة. كان الهدف من هذه السياسة هو إطلاع الدول الإقليمية الرئيسية والمؤثرة، ومن بينها المملكة العربية السعودية، على سير المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة لكسب ثقتها ودعمها والحفاظ عليهما. يبدو أن هذا النهج كان ناجحًا؛ لأنه على عكس الماضي، حيث كان احتمال تعاون هذه الدول مع أي هجوم على المنشآت النووية الإيرانية عاليًا جدًا، شهدنا هذه المرة إدانة موحدة للهجوم الإسرائيلي من قبل مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
8 ربيع الأول 1447
رویت 70
محمد مهدی مظاهری

قبل الهجوم غير المشروع من قبل إسرائيل والولايات المتحدة على المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية، كانت الدبلوماسية الإيرانية تتبع نهجًا فعالًا ومتعدد الأطراف في المنطقة. كان الهدف من هذه السياسة هو إطلاع الدول الإقليمية الرئيسية والمؤثرة، ومن بينها المملكة العربية السعودية، على سير المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة لكسب ثقتها ودعمها والحفاظ عليهما. يبدو أن هذا النهج كان ناجحًا؛ لأنه على عكس الماضي، حيث كان احتمال تعاون هذه الدول مع أي هجوم على المنشآت النووية الإيرانية عاليًا جدًا، شهدنا هذه المرة إدانة موحدة للهجوم الإسرائيلي من قبل مجلس التعاون لدول الخليج العربية.


ومع ذلك، بعد وقوع الهجوم، انخفض مستوى الجهود والمشاورات الدبلوماسية الإقليمية. يبدو هذا الانخفاض طبيعيًا إلى حد ما، ويمكن أن يكون ناتجًا عن الحاجة إلى ترسيخ الأوضاع وإعادة تقييم الحسابات الإقليمية. من جهة أخرى، تحولت الأولويات العسكرية-الأمنية الإيرانية بعد الهجوم نحو تعزيز الردع وزيادة الجاهزية الدفاعية. كما يبدو أن فشل جهود الوساطة لدول مثل عمان والسعودية والعراق وقطر في منع الهجوم الإسرائيلي، وحتى المشاركة غير الإرادية لبعضها في هذا العدوان، قد قلل من ثقة الجهاز الدبلوماسي الإيراني بهذه القنوات لحل الأزمة بشكل حقيقي.


في مثل هذه الظروف، من الطبيعي أن يتحول التركيز من الدبلوماسية الإقليمية النشطة إلى السياسات الردعية. ومع ذلك، من الضروري أن يظل نهج دول المنطقة، وخاصة المملكة العربية السعودية، وأنشطتها تحت المراقبة الدقيقة للجهاز الدبلوماسي الإيراني، وذلك لاستغلال كافة الطاقات الإقليمية المتاحة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية وتأمين المصالح الوطنية.


في هذا السياق، تكتسب أهمية خاصة مكانة ودور المملكة العربية السعودية. ليس خافيًا على محللي العلاقات الدولية أن هذه الدولة قد صاغت سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة بالتركيز على خفض التوتر والدبلوماسية النشطة على الساحتين العالمية والإقليمية. فبعد إنهاء حرب اليمن وتجاوز أزمة مقتل خاشقجي، سعت المملكة إلى ترميم صورتها المتضررة والمساهمة من خلال ذلك في نموها الاقتصادي. وفي هذا الإطار، حاول مسؤولو المملكة تغيير دور السعودية من لاعب عسكري-أمني متدخل وسيء السمعة إلى موازن إقليمي ساعٍ للسلام وذو مصداقية، وذلك بالتركيز على المشاريع الاقتصادية والتقنية والتغيير الجوهري في مقاربات السياسة الخارجية. تتمثل التوجهات الرئيسية للمملكة لتحقيق هذا الهدف في السنوات الأخيرة فيما يلي:


1. خفض التوتر مع إيران وتطوير العلاقات
في حين وصلت العلاقة بين إيران والسعودية إلى حافة توترات خطيرة، وكان مسؤولو المملكة يدعمون علنًا إثارة الفوضى وانعدام الأمن في إيران، رأى المسؤولون السعوديون أن هذه السياسة تتعارض مع هدفهم في النمو الاقتصادي، وتحولوا نحو إزالة التوتر مع إيران. هذا النهج، الذي بدأ باتفاق بكين عام 2023، تعزز خلال العامين الأخيرين بتبادلات دبلوماسية إيجابية بين الطرفين. هدف السعودية من هذه السياسة هو تقليل التهديدات المحتملة وخلق بيئة مستقرة لتنفيذ مشاريعها الاقتصادية الطموحة، ولا سيما في إطار رؤية 2030.


2. تطبيع العلاقات مع إسرائيل
على الرغم من أن عملية تطبيع العلاقات مع إسرائيل واجهت تحديات بسبب حرب غزة والجرائم الإسرائيلية التي لا حدود لها في هذا القطاع ضد الشعب والمدنيين الفلسطينيين، إلا أن الرياض لا تزال تنظر إليها كـهدف استراتيجي. ورغم رغبتها في الحصول على امتيازات أمنية واقتصادية من الولايات المتحدة والاستفادة من مزايا تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، إلا أن الرياض تتجنب التسرع في هذه المسألة. فمن أجل الحفاظ على صورتها على الساحة الداخلية وبين الدول الإسلامية، تسعى المملكة للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام في ظروف تستطيع فيها أن تُظهر أن التقارب مع إسرائيل ليس خيانة، بل أداة لدفع القضية الفلسطينية قدمًا، ومن هذا الطريق تعزيز شرعية ولي العهد. وفي هذا الصدد، طرحت السعودية شروطًا مسبقة لهذا التطبيع، مثل إقامة الدولة الفلسطينية، وتسعى للعب دور أكثر فاعلية في مفاوضات السلام وتولي قيادة الدول الإسلامية في هذا المجال.


3. الوساطة في الأزمات الإقليمية
في السنوات الأخيرة، برزت السعودية كـوسيط رئيسي في الأزمات الإقليمية من خلال تبني نهج نشط. والمثال البارز على هذا الدور هو استضافة مفاوضات بين الأطراف المتنازعة في السودان خلال عام 2023. وفي أزمة غزة أيضًا، سعت الرياض للوساطة وإقامة وقف لإطلاق النار، وأكدت علنًا على دعمها لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ومع ذلك، وبسبب تعقيد هذه الأزمة واتساع نطاقها، ظل دور السعودية في هذا المجال محدودًا، ويبدو أن أولويتها الرئيسية كانت الحفاظ على التوازن في علاقاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة. لم تقتصر هذه الدبلوماسية النشطة على المنطقة، بل سعت السعودية أيضًا لزيادة نفوذها العالمي من خلال اتخاذ خطوات للعب دور في نزاعات هامة مثل المفاوضات النووية الإيرانية وجهود السلام بين روسيا وأوكرانيا.


4. الدبلوماسية الاقتصادية
بإدراك عميق للارتباط بين الاستقرار الاقتصادي والسياسي، وضعت الرياض الدبلوماسية الاقتصادية في صميم استراتيجياتها. تُتبع هذه الاستراتيجية من جهة عبر استثمارات ضخمة في دول مثل الصين، والولايات المتحدة، وبريطانيا، والعراق، وسوريا، ومصر، ومن جهة أخرى عبر تطوير العلاقات التجارية مع الدول الأفريقية. وفي الوقت نفسه، تسعى السعودية لتحقيق أهداف رؤية 2030 من خلال جذب الاستثمار الأجنبي المباشر من القوى الاقتصادية مثل الصين والهند والولايات المتحدة، وذلك لتحرير اقتصادها من الاعتماد على النفط وتحويله إلى مركز اقتصادي بمصادر دخل متنوعة.


في بُعد آخر، تسعى المملكة إلى ترسيخ نفسها كـلاعب رئيسي في هندسة البنية التحتية الرقمية العالمية. ويشهد على ذلك الاستثمارات الهائلة في تطوير الكابلات البحرية ومراكز البيانات، والتعاون في مجال الحوسبة السحابية مع عمالقة التكنولوجيا العالميين. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر المشاركة الفعالة للسعودية في الحوارات الدولية حول حوكمة الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني بوضوح أن السياسة الاقتصادية والطموحات الاستراتيجية متداخلة تمامًا في نظر صانعي القرار السعوديين.


5.تطوير العلاقات مع القوى العالمية
مع حفاظها على علاقاتها التقليدية مع الولايات المتحدة، تواصل السعودية في الوقت نفسه تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا. يتيح لها هذا النهج متعدد الأبعاد أن تستخدم قوة ضد قوى أخرى عند الضرورة، واكتساب استقلالية استراتيجية أكبر. والمشاركة في منظمات مثل بريكس هي مثال على هذه السياسة.


6. الإصلاحات الداخلية
على صعيد السياسة الداخلية، تركز السعودية بجدية على مشاريعها التحولية الاجتماعية والاقتصادية. ويرتبط نجاح الخطط الكبرى مثل مدينة "نيوم" وجذب الاستثمار الأجنبي بالاستقرار الداخلي. ولهذا يسعى المسؤولون السعوديون إلى تقديم صورة لدولة حديثة ومستقرة وموثوقة لشركائها الدوليين. في خلاصة شاملة، يظهر نهج السعودية في السنوات الأخيرة بوضوح الانتقال من سياسة المواجهة إلى سياسة التوازن والتعاون. فبإدراك عميق لتعقيدات الجغرافيا السياسية للمنطقة ومتطلبات هيكل القوة العالمية، تسعى المملكة إلى تأمين مصالحها وأمنها على المدى الطويل من خلال إعادة بناء سياستها الخارجية ونهجها الإقليمي.
يبدو من الضروري استغلال التغيير في مواقف السعودية لصالح مصالح وأمن إيران الوطنية في فترة ما بعد الحرب. فالموقع الجغرافي والهيكل الاقتصادي لـمضيق هرمز يجعلان السعودية ودول الخليج الأخرى معرضة بشدة لأي تصعيد للتوتر بين إسرائيل وإيران. إن أي مواجهة عسكرية جديدة بين إيران والكيان الإسرائيلي لا تهدد تدفق الطاقة فحسب، بل تهدد أيضًا أمن التجارة والاستثمار في المنطقة. إن إلغاء أو تغيير مسار الرحلات الجوية، وارتفاع أسعار الشحن البحري في الخليج العربي وبحر عمان، وازدياد الاضطرابات الإلكترونية التي تؤثر على أنظمة ملاحة السفن في جميع أنحاء الخليج، وما شابه ذلك، يمكن أن يحول حلم السعودية والدول الأخرى في المنطقة بالنمو والتنمية الاقتصادية إلى سراب بعيد المنال.
لذلك، في المرحلة الحالية، تتلاقى مصالح إيران ودول الخليج العربية، وخاصة السعودية، في مسار واحد: الأمن والاستقرار في الخليج العربي! وفي هذا السياق، من الضروري استئناف المشاورات والحوارات الإقليمية مرة أخرى لبناء المرونة والمساعدة في خلق نظام إقليمي أكثر استدامة، والمطالبة من المملكة العربية السعودية والقوى المتوسطة الناشئة الأخرى في المنطقة بتحويل نفوذها إلى مبادرة من أجل السلام والأمن، والوقوف إلى جانب إيران لمنع اندلاع حرب أخرى في الخليج.


محمد مهدي مظاهري، أستاذ جامعي

  إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة

متن دیدگاه
نظرات کاربران
تاکنون نظری ثبت نشده است