اتبع الكيان الصهيوني في السنوات الأخيرة، وخصوصًا إثر الحرب العدوانية الأخيرة ضد إيران، استراتيجية هجومية ومتعددة الأوجه تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية والبيئة الأمنية المحيطة به. ولا يجوز النظر إلى هذه الاستراتيجية باعتبارها مجرد رد فعل قصير الأمد للتطورات الميدانية، بل ينبغي اعتبارها محاولة منظمة ومنهجية لإعادة تعريف كامل للنظام الإقليمي وتثبيت هيمنته في غرب آسيا. تسعى تل أبيب، مستفيدةً في الوقت ذاته من الأدوات العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية والاقتصادية، إلى إقامة «هيمنة منيعة» تمنع زيادة القدرات الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفائها في محور المقاومة.
لا بد من اعتبار الحرب العدوانية الأخيرة نموذجًا بارزًا للحروب المركبة ومتعددة الطبقات في القرن الحادي والعشرين. ففي هذه الحرب لجأ الكيان الصهيوني، وفقًا لعقيدة «الحملة بين الحروب»، إلى تنفيذ مجموعة من العمليات المركبة التي شملت هجمات سيبرانية، تخريب بنية تحتية، اختراقات معلوماتية، وحروب نفسية. تشكّل هذه العقيدة نواة استراتيجية الأمن القومي للكيان، وتهدف إلى مواجهة خصومه من خلال صراعات منخفضة التكلفة لكنها مستمرة.
۱. إعادة تعريف التهديد والاستراتيجيات الرئيسة للكيان الصهيوني
بعد هذه الحرب، وخاصة بعد العملية المفاجئة «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، شهد الخطاب الأمني في تل أبيب تحولًا بارادايميًا جذريًا. فإذا كان تركيز الكيان سابقًا منصبًا على احتواء جماعات المقاومة مثل حزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن، وحركة حماس، فإن تل أبيب باتت تنظر اليوم إلى إيران ليس كداعم بعيد، بل كتهديد رئيسي ومباشر لوجود الكيان. وقد أثّر هذا التعريف الجديد على جميع حسابات الأمن في تل أبيب.
تشير الدراسات إلى أن استراتيجية الكيان الصهيوني بعد الحرب العدوانية الأخيرة ترتكز على عدة محاور رئيسية:
1. الاحتواء اللوجستي لإيران ومحور المقاومة: الهدف الأساسي هنا يكمن في قطع سلسلة الإمداد بالأسلحة والتقنيات العسكرية من إيران إلى جماعات المقاومة لتقييد قدرات هذا المحور. وقد أسست تل أبيب، بالتعاون مع الولايات المتحدة، شبكة معقدة من المراقبة البحرية والجوية والسيبرانية لمنع نقل الأسلحة والتكنولوجيا والموارد المالية إلى جماعات المقاومة.
2. تقييد البرنامج النووي والصاروخي الإيراني: يُعدّ البرنامج النووي والصاروخي الإيراني تهديدًا حيويًا لوجود الكيان. وتتجاوز استراتيجية الكيان الصهيوني هدف تجميد هذا البرنامج إلى «القضاء المنهجي والتدريجي على قدرات إيران في هذه المجالات عبر مزيج من اغتيال العلماء، تخريب المنشآت، وممارسة ضغوط دولية غير مسبوقة». ويشمل ذلك منع تخصيب اليورانيوم، إيقاف إنتاج الصواريخ الباليستية، وفرض تكاليف رادعة على البرنامج النووي الإيراني.
3. الحفاظ على التفوق النوعي والردع النشط: يسعى الكيان إلى الحفاظ على الفارق في القدرات العسكرية بينه وبين إيران ومحور المقاومة. ويقصد بمفهوم «الردع النشط» في الخطاب الصهيوني القيام بإجراءات استباقية وهجومية لتعطيل التهديدات قبل أن تتكوّن. ويشمل ذلك تطوير منظومات دفاع صاروخي متقدمة (كـ «القبة الحديدية» إلى أبعد من ذلك)، هجمات سيبرانية، وعمليات اغتيال.
4. خفض الدور الإقليمي لإيران إلى مستوى يمكن احتواؤه: الهدف النهائي لتل أبيب ليس تدمير إيران، بل تهميش سلوكها ودورها الإقليمي إلى حد يجعلها من لاعب مؤثّر إلى «تهديد يُدار».
في هذا السياق، يتحدّث المسؤولون الصهاينة عن خطة يسمّونها «أرض وسماء آمنة» تتضمّن ثلاثة شروط مفروضة على إيران: التوقف التام عن تخصيب اليورانيوم، خفض مدى الصواريخ الإيرانية إلى أقل من ٥٥٠ كيلومترًا (وهو ما يُفقد إيران عمليًا قدراتها الدفاعية والردعية أمام هذا الكيان)، والتوقف التام عن دعم جماعات المقاومة. إن الموافقة على هذه الشروط تعني في الواقع القبول وكيل أمن من قبل الكيان الصهيوني على إيران.
الخلاصة والتداعيات المستقبلية:
بوجه عام، يمكن القول إن استراتيجية الكيان الصهيوني بعد الحرب العدوانية ضد إيران قد تحولت من سياسة ردع محدودة إلى نهج عدواني تمامًا. وتعتمد هذه السياسة الجديدة على ثلاثة محاور رئيسية:
- الاعتماد على القدرة العسكرية المتقدمة والعمليات العابرة للحدود في إطار عقيدة «الحرب بين الحروب». ومع ذلك، فإن هذه السياسة ليست خالية من المخاطر وقد تؤدي إلى دوامة خطيرة من التصعيد المتبادل يصعب السيطرة عليها من كلا الطرفين. فخطأ في الحساب أو هجوم ذي خسائر كبيرة يمكن أن يقود إلى صراع شامل لا يرغب أي طرف في نشوبه.
- التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين لممارسة أقصى الضغوط السياسية والاقتصادية والدولية.
- الاستفادة الشاملة من أدوات الحرب الناعمة والاقتصادية والنفسية لإحداث اضطراب داخلي وإضعاف التماسك الوطني في إيران. والهدف النهائي من هذه الاستراتيجية هو إجبار الجمهورية الإسلامية الإيرانية على تغيير سلوكها وقبول دور هامشي وغير حاسم في المعادلات الإقليمية. يعتقد الكيان الصهيوني أنه فقط من خلال الضربات المستمرة والضغط متعدد الطبقات يمكنه منع إيران من أداء دورها التاريخي كراية لمحور المقاومة وتمهيد الطريق أمام هيمنته الإقليمية.
في إطار خطاب المقاومة، تُقيَّم استراتيجية الكيان الصهيوني على أنها محاولة للاحتفاظ بالهيمنة والتسلط في المنطقة. وصُمِّمت هذه الاستراتيجية بهدف إضعاف محور المقاومة والحد من نفوذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية إقليميًا. ومع ذلك، تواجه هذه المنهجية تحديات بارزة، من بينها ارتفاع التكاليف العسكرية، العزلة الدولية، وتعزيز روح المقاومة بين شعوب المنطقة. ووفقًا لنماذج تقييم الوضع الدولي، يعاني الكيان الصهيوني تراجعًا في مؤشرات متعددة تشمل الاستقرار السياسي، الصورة الدولية، وأداء السياسة الخارجية. ويبيّن هذا التراجع في التصنيفات تراجع الثقة والدعم الدولي للكيان الصهيوني.
بریسا رضایی خبيرة في مركز الدراسات السياسية والدولية
إن المعلومات والآراء الواردة تمثل آراء المؤلفین ولا تعکس وجهة نظر مرکز الدراسات السیاسیة والدولیة